في مشهد يتكرر كل عام ويزداد خطورة سنة بعد أخرى، عاش سكان عدد من أحياء الدار البيضاء وسلا ليلة سبت متوترة، بعد أن تحولت الأزقة والشوارع إلى فضاءات عشوائية لإطلاق المفرقعات وإضرام النار، في ما بات يسمى تجاوزا بـ”احتفالات عاشوراء”.
الأصوات المدوية التي تسببت فيها مفرقعات من نوع “فيزي” و”الصواريخ” لم تكن مجرد تعبير طفولي عن الفرح، بل كانت مصدر رعب حقيقي لساكنة المدينة، خاصة في الأحياء الشعبية والمناطق ذات الكثافة السكانية، حيث باتت هذه المظاهر تشكل تهديدا مباشرا للسلامة الجسدية والممتلكات.
طقوس متوارثة أنها لم تعد بريئة
الخطير في هذه الطقوس المتوارثة أنها لم تعد بريئة كما كانت في السابق، بل تحولت إلى مظاهر تخريبية. أطفال وقاصرون يعمدون إلى إشعال النار في الإطارات المطاطية، ضمن ما يسمى بـ”الشعالة”، متسببين في اندلاع حرائق صغيرة استدعت تدخل فرق الوقاية المدنية، وسط غياب واضح لردع فعال من الجهات المعنية.
السلطات المحلية، وإن تدخلت لإخماد بعض النيران، إلا أن تساهلها المسبق مع بيع وترويج هذه المفرقعات، والتي تدخل البلاد بطرق غير مشروعة في الغالب، يثير تساؤلات حول من يتحمل المسؤولية: هل هي الأسر التي تخلت عن دورها التربوي؟ أم المصالح الأمنية التي تغض الطرف عن مصادر التهريب؟ أم أن الخلل أعمق ويكمن في غياب بدائل تربوية وترفيهية حقيقية تجذب الأطفال بعيدا عن هذه الطقوس الخطرة؟
تظهر هذه الظاهرة أن عاشوراء لم تعد مناسبة دينية تحمل طابعا روحيا أو اجتماعيا، بل تحولت إلى مناسبة للانفلات والفوضى. ومع تكرار هذه الأحداث كل عام، من الواضح أن التعامل معها بمنطق الإطفاء اللحظي لن يجدي، ما لم تتم معالجة جذورها التربوية والاجتماعية والأمنية.
فالمشهد أصبح مقلقا، والأحياء باتت رهينة لفئة من القاصرين الذين يجدون في هذا اليوم فرصة للتمرد وإشعال الفوضى، في غياب أي احتضان مؤسساتي حقيقي لأطفال المدينة.
المطلوب اليوم ليس فقط منع المفرقعات، بل إعادة تعريف دور الدولة في حماية الطفولة من التحول إلى مصدر تهديد مجتمعي، عبر دعم التعليم، وتوفير فضاءات لعب، وتعزيز دور الأسرة، وفرض رقابة صارمة على شبكات التهريب التي تجعل من عاشوراء موعدا للرعب بدل الفرح.
بدائل الفوضى: مهرجانات منظمة كاستراتيجية لاحتواء ظاهرة المفرقعات و”الشعالة”
في ظل تكرار مشاهد الفوضى التي تشهدها المدن المغربية، وعلى رأسها الدار البيضاء، خلال احتفالات عاشوراء، يطرح خيار تنظيم مهرجانات محلية مهيكلة ومؤطرة كأحد الحلول العملية القادرة على امتصاص الطاقات الطفولية والشبابية المتفجرة، وتحويلها من تهديد أمني إلى فرصة اجتماعية وثقافية.
فبدل أن تتحول الشوارع إلى مسارح للنار والدخان والانفجارات العشوائية، يمكن للسلطات المحلية والجماعات الترابية، بشراكة مع جمعيات المجتمع المدني، أن تنظم مهرجانات عاشوراء في الفضاءات العمومية الكبرى، تتضمن عروضا فنية، ومسابقات للأطفال، واستعراضات شعبية، وحتى عروضًا نارية آمنة تنفذها فرق مختصة، في إطار مراقب ومؤمن بالكامل.
هذه المبادرة لا تتطلب ميزانيات ضخمة، بل إرادة سياسية واستباقية، تقوم على إدماج الشباب في دينامية احتفالية موجهة، تراعي تقاليد عاشوراء ولكن في قالب عصري وآمن. كما يمكن لمثل هذه المهرجانات أن تكون مناسبة لإنعاش الاقتصاد المحلي، عبر تمكين الباعة الصغار والحرفيين من المشاركة في الأسواق الموازية المصاحبة للفعاليات.
من جهة أخرى، سيساهم تنظيم هذا النوع من الأنشطة في تحصين الأطفال من الانجرار وراء الممارسات الخطرة، عبر إشراك المدارس والمؤسسات التربوية في ورشات توعوية خلال الأسبوع الذي يسبق عاشوراء، يتم من خلالها شرح مخاطر المفرقعات وآثارها الصحية والنفسية، وتقديم بدائل ترفيهية أكثر أمانا.
ويمكن الاستفادة من تجارب دول عديدة واجهت تحديات مشابهة، حيث لجأت إلى ما يعرف بـ”الكرنفالات المؤطرة”، التي تجمع بين الترفيه والضبط المجتمعي، وتحقق نتائج إيجابية على المدى المتوسط والبعيد.
في نهاية المطاف، فإن استسلام الدولة والمجتمع للفوضى الموسمية لم يعد خيارا مقبولا، خصوصا في مدن كبرى كالعاصمة الاقتصادية، حيث تتحول الاحتفالات إلى تهديد حقيقي لأمن السكان وممتلكاتهم. وحدها الرؤية المتكاملة التي تجمع بين الضبط الأمني، والتأطير الثقافي، والاحتضان الاجتماعي، يمكنها أن تنزع فتيل عاشوراء المتفجر وتعيد إليه معناه الرمزي والإنساني الأصيل.