تغيرت خريطة الاستهلاك في المغرب خلال السنوات الأخيرة، لا بسبب طفرة اقتصادية، بل بفعل الضربات المتكررة للقدرة الشرائية جراء موجات تضخم متتالية. هذه الظروف دفعت الكثيرين، خصوصا من أبناء الطبقة الوسطى، إلى إعادة النظر في أسلوب عيشهم، فبرزت أسواق المستعمل كحل عملي ومرن لمواجهة الأسعار المرتفعة.
من الاستثناء إلى القاعدة: اقتصاد جديد يولد من الحاجة
في السابق، كان اللجوء إلى سوق “الجوطية” أو متاجر المستعمل حلا اضطراريا تلجأ إليه الفئات المحدودة الدخل. لكن مع اتساع رقعة الأزمة المعيشية، باتت هذه الأسواق تجذب فئات أوسع من المجتمع، لم تعد تخجل من اقتناء هاتف ذكي مجدد أو معطف شتوي مستعمل بجودة عالية وبسعر أقل بكثير من الجديد.
لم تعد “الفريب” مرتبطة بصورة الحاجة، بل أصبحت خيارا استهلاكيا عقلانيا ومسؤولا في نظر كثيرين، خاصة مع انتشار ثقافة “إعادة الاستعمال” ووعي بيئي متزايد.
ما يميز هذه الطفرة ليس فقط حجم الإقبال، بل أيضا تطور العرض وتنوعه. من الملابس إلى الأجهزة المنزلية، مرورا بالهواتف والحواسيب المعاد تجديدها، أصبح السوق يعرض كل شيء تقريبا. إلى جانب ذلك، برز جيل جديد من البائعين الذين أتقنوا استخدام التكنولوجيا، فصاروا يسوقون منتجاتهم عبر “فيسبوك”، و”إنستغرام”، وحتى منصات البيع المتخصصة.
الأمر لا يتعلق فقط بالبيع، بل أيضا بالتأهيل والتكوين. فبائعو الإلكترونيات في “درب غلف” بالدار البيضاء، مثلا، راكموا خبرات تقنية، بعضهم خضع لتدريبات داخل المغرب أو عن بعد، مما حول هذا السوق إلى مركز شبه صناعي في مجال إصلاح وإعادة تدوير الهواتف.
هذه الدينامية تعكس مسارا مزدوجا: فمن جهة، تحمي الأسر من الانهيار الاستهلاكي، ومن جهة أخرى، توفر فرص شغل غير مباشرة لآلاف الشباب في ظل شح الوظائف في السوق الرسمية. ومع تزايد حجم المبادلات، بدأت بوادر تشكل قطاع مهيكل ضمن الاقتصاد غير المهيكل، يفرض نفسه بالأرقام.
غير أن لهذا الصعود وجها آخر، إذ إن تضخم سوق المستعمل قد يؤثر سلبا على الصناعات الوطنية، خصوصا تلك المرتبطة بصناعة السلع الاستهلاكية. كما أن غياب الرقابة والتنظيم يجعل بعض المستهلكين عرضة لشراء سلع مغشوشة أو غير آمنة.
بين الضرورة والاختيار.. أي مستقبل لسوق المستعمل؟
في ظل هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى سياسات عمومية ذكية تواكب هذا التحول، من خلال تنظيم الأسواق، وتوفير ضمانات أساسية للمستهلك، وتشجيع الصناعات المحلية على الانخراط في دورة التدوير والإصلاح، بدلا من الاكتفاء بدور المتفرج.
فرغم أن أسواق المستعمل تشكل طوق نجاة مرحلي، فإن تركها دون تأطير قد يكرس اقتصاد هش لا يخدم أهداف التنمية المستدامة. والسؤال الأهم يبقى: هل تعي السلطات أن “الجوطية” أصبحت مؤشرا اقتصاديا لا يقل أهمية عن البورصة؟