في عالم الأخبار الرقمي، لم يعد التضليل يقتصر على الأخبار الكاذبة الصريحة، بل تطور ليأخذ أشكالا أكثر دهاءً وخطورة. وفي هذا السياق، تبرز تقنية “غسل المعلومات” (Information Laundering) كأداة قوية، تستخدم لتمرير ادعاءات مضللة داخل سياقات تبدو موثوقة وإيجابية، لتخرج في النهاية كحقائق شرعية تفسد الخطاب بأكمله.
ولعل أحدث مثال على هذه التقنية هو مقال نشره مركز الدراسات التابع لقناة الجزيرة، في الثالث من غشت الماضي، أي بعد أربعة أيام فقط من الاحتفال بعيد العرش. للوهلة الأولى، قد يفرح المقال القارئ المغربي، فهو يخصص تحليلا مطولا لمشروع نفق المضيق بين المغرب وإسبانيا، في خطوة تبدو مغايرة لسياسة القناة التي دأبت على تغطية الأخبار السلبية للمملكة.
تشريح عملية التضليل
لكن الفرحة لم تدم طويلا. ففي عمق المقال، تم دس معلومة مفادها أن الكلفة المالية للمشروع ستتجاوز 30 مليار دولار، وهي معلومة مضللة بالكامل. الأخطر من ذلك هو أن المقال لم يكتف بإيراد الرقم، بل نسبه زورا للفرع الإيبيري لشركة “Herrenknecht” الألمانية، المكلفة بتحليل الجدوى الفنية للمشروع. وبهذه الطريقة، اكتسب الرقم المزيف شرعية زائفة، وكأنه تقدير رسمي صادر عن جهة علمية موثوقة.

والحقيقة أن التقديرات الواقعية لكلفة النفق تتراوح بين 6 و15 مليار دولار، حسب نتائج الدراسات التقنية. ولم تصرح الشركة الألمانية أبدا برقم 30 مليار دولار، ولا يوجد له أي أثر في أي من تقاريرها أو تصريحاتها. إن الجزيرة، التي تعد مصدرا رئيسيا للأخبار لدى قنوات دولية أخرى، تعمدت مضاعفة الكلفة الحقيقية ليتسرب الرقم لاحقا إلى تقارير إعلامية أخرى، فيبدو المشروع ضخما ومبالغا فيه، مما يضعف من جدواه الاقتصادية في نظر المستثمرين والمتابعين.
استراتيجية جديدة.. من “المقالات المباشرة” إلى “العلاقات العامة المظلمة”
هذا الحادث يكشف عن تحول خطير في استراتيجية استهداف المغرب. فبعد أن كانت تعتمد على المقالات المباشرة والصريحة التي كان المغاربة يستهجنونها بشدة على منصات التواصل الاجتماعي، انتقلت اليوم إلى أساليب أكثر دهاء، كالاعتماد على تقنية “الـDeep Fake” في صناعة مقالات تبدو عميقة وتحليلية لكنها محملة بأخطاء جوهرية.
وتستخدم الجزيرة في هذا السياق ما يمكن تسميته بـ”العلاقات العامة المظلمة” (Dark PR)، وهو أسلوب يهدف إلى تقديم إطار ترويجي ظاهره إيجابي (في هذه الحالة، الترويج لنفق طنجة)، لكن هدفه الحقيقي هو زرع معلومة مضللة ومؤذية في عمق الخطاب. إنها حرب ناعمة، لا تستخدم فيها الدبابات والقذائف، بل الأرقام والكلمات، التي قد يكون تأثيرها أكثر تدميرا على المشاريع التنموية الكبرى.