الأكثر مشاهدة

المدن المغربية بين الواجهة البراقة والهياكل المهجورة: الوجه الخفي لـ”العمران غير المكتمل”

خلف الواجهة اللامعة لما يسمى بـ“التمدن العصري” في المغرب، يختبئ وجه آخر أقل بريقا وأكثر إيلاما: مدن تنتشر فيها مشاريع عمرانية متوقفة، ومبان عمومية لم تكتمل يوما، ومساحات تركت فريسة للإهمال والزمن. ما يصفه الخبير في التهيئة الحضرية مصطفى خير الدين بـ“العمران غير المكتمل” أصبح اليوم ظاهرة بارزة في مختلف المدن المغربية، تطرح أسئلة عميقة حول الحكامة، والتخطيط، واستدامة المجال الحضري.

فبينما تتسابق المدن لتقديم نفسها كـ“عاصمة خضراء” أو “وجهة سياحية” أو “مدينة رياضية”، يجري ذلك أحيانا على حساب أراض فلاحية ذات قيمة عالية. أكثر من 5000 هكتار من الأراضي الزراعية تحول سنويا إلى مناطق عمرانية، تحت ضغط سوق عقاري متحكم في وتيرة التوسع وخرائط التنمية.

لكن وراء هذا الزخم، تتكاثر الهياكل الإسمنتية المهجورة: عمارات بلا نوافذ ولا سكان، مراكز ثقافية تآكلت قبل أن تفتح أبوابها، ومرافق إدارية شاخت وهي ما تزال قيد الإنشاء. في ضواحي المدن كما في قلبها، يقف “العمران غير المكتمل” شاهدا على خلل مركب في سلسلة القرار الحضري.

- Ad -

ويشير الخبير خير الدين إلى أن غياب المعطيات الدقيقة يجعل من الصعب تقدير حجم الظاهرة، لكن المؤشرات واضحة: آلاف الأسر حرمت من سكنها بعد توقف المشاريع السكنية، ومليارات الدراهم مجمدة في استثمارات لم تكتمل. أما في بعض الحالات، فالأمر يعود إلى صراعات سياسية أو مالية، أو نزاعات عقارية، أو غياب التمويل الكافي لاستكمال الأشغال.

ويضيف أن “مشاريع عديدة، مثل محطات طرقية أو مراكز اجتماعية، أصبحت اليوم متجاوزة وظيفيا وموقعيا، بعد أن غيرها الزمن وتبدلت الحاجة إليها”. ويرجع ذلك إلى غياب رؤية حضرية منسجمة واستمرار البيروقراطية وتعاقب المسؤولين دون استمرارية في التنفيذ.

ولا تتوقف آثار هذه الظاهرة عند الحدود الجمالية، بل تمتد إلى تدهور المشهد الحضري وتراجع جاذبية المدن. فالمباني المهجورة تتحول إلى بؤر للأوساخ والمخاطر، كما تفقد السكان ثقتهم في وعود التنمية. اقتصاديا، يشكل “العمران غير المكتمل” نزيفا ماليا، إذ تهدر موارد ضخمة كان يمكن أن توجه إلى مشاريع اجتماعية منتجة.

غير أن الأمل لا يزال ممكنا. فحسب الخبير خير الدين، يمكن تحويل هذه المشاريع المتوقفة إلى فرص جديدة، عبر استلهام تجارب دولية ناجحة مثل إعادة تهيئة المصانع القديمة كمراكز ثقافية، أو تحويل الأراضي المهجورة إلى فضاءات خضراء. كما يقترح إحداث صندوق وطني مخصص لإتمام المشاريع المعطلة وتحديث القوانين المنظمة للمجال العمراني.

ويخلص الخبير إلى أن “مدننا لا تحتاج فقط إلى البنايات، بل إلى رؤية عمرانية متكاملة تضمن الاستدامة، وتقطع مع منطق ‘الواجهة الجميلة’”. فالمغرب، وهو يرفع شعارات التنمية والحداثة، مدعو اليوم إلى مواجهة حقيقة مدنه التي لا تكتمل، لتتحول من مساحات إسمنتية مهجورة إلى مدن نابضة بالحياة والعدالة المجالية.

مقالات ذات صلة