تحرك صامت لكنه ثقيل الدلالة شهده قصر المرادية بالجزائر، حين استقبل الرئيس عبد المجيد تبون، مساء الأربعاء، إبراهيم غالي، زعيم جبهة البوليساريو الانفصالية، دون أن يكشف عن مضمون اللقاء أو أسبابه، مكتفية الرئاسة الجزائرية ببلاغ مقتضب يفيد بأن الطرفين “تبادلا وجهات النظر حول العلاقات الثنائية”، في خطوة أثارت حيرة المراقبين وأسئلة لا تنتهي.
بعيدا عن اللغة الدبلوماسية الجافة، جاء هذا الاستقبال في سياق مشحون بالأحداث الميدانية داخل مخيمات تندوف، حيث تعيش الساكنة موجة من الغضب غير المسبوق، وسط انتشار فيديوهات على منصات التواصل توثق انفلاتا أمنيا، واحتجاجات شبابية تتهم ميليشيات الجبهة بالقمع وسوء التدبير واحتكار القرار.
زيارات الغموض.. والسبب تندوف؟
ما أثار الانتباه هذه المرة هو غياب التصريحات التقليدية التي ترددها الجزائر في كل مناسبة دعم للانفصاليين، من قبيل “تقرير المصير” و”الجمهورية الصحراوية”، ما دفع إلى الربط بين هذا التغير الظاهري والاحتقان المتزايد داخل المخيمات، خاصة بعد أنباء عن مقتل شاب وإصابة آخرين في اشتباكات سابقة بين سكان المخيمات والجيش الجزائري.
المعطيات الميدانية تشير إلى وجود تصدعات عميقة في البنية الداخلية للبوليساريو، يضاعفها تفشي مظاهر الفقر والبطالة، وارتفاع أصوات شبابية غاضبة تتهم القيادة التاريخية للجبهة بالعيش في رفاه خارجي وترك الشباب يواجهون المصير في خيام الطين.
“جون أفريك”: البوليساريو ماتت سياسيا
مما يعزز هذا التوجه، تقرير مطول صدر عن مجلة “جون أفريك” الفرنسية، حمل عبارات صادمة حول الوضع داخل تندوف، واصفا الحياة في المخيمات بأنها “عزلة بلا أمل”، مضيفة أن الجزائر نفسها فقدت إيمانها بقدرة البوليساريو على تحقيق أي نصر، بل اعتبرت مبادرة الحكم الذاتي التي يقترحها المغرب “الأكثر واقعية”.
التقرير كشف كذلك أن السلطة الفعلية في المخيمات لا تعود للصحراويين، بل تحتكرها القيادة عبر نظام استبدادي، تراقب فيه التنقلات وتتحكم في المعونات. وفيما يعيش الشباب على تهريب المساعدات للبقاء، يستثمر القادة في علاقاتهم ونفوذهم، متنقلين بين الجزائر وأوروبا.
الشهادات الميدانية التي أوردها التقرير ذاته تنقل صورة جيل فقد الثقة في الشعارات التقليدية. فتاة عائدة من موريتانيا تقول: “لا أحد يتابع إعلام البوليساريو هناك.. وحده والدي ما زال يصدق هذه الدولة الوهمية”. عبارة تكشف حجم الانفصال بين جيل الحرب وجيل الخيبة.
عزلة دبلوماسية وهزيمة سياسية
على المستوى الخارجي، تتكبد جبهة البوليساريو، ومعها الجزائر، هزائم دبلوماسية متتالية،.. بعدما اعترفت قوى كبرى، كأمريكا وإسبانيا وفرنسا، بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية،.. فيما باتت مناورات الجبهة على الأرض تقابل برد عسكري حاسم، كما حدث في الكركرات.
في المجمل، يبدو أن لقاء تبون وغالي جاء في لحظة حرجة، لا لتنسيق سياسي علني،.. بل ربما للبحث عن وصفة طوارئ داخلية تنقذ ما يمكن إنقاذه من مشروع فقد مبررات وجوده،.. وسط جيل لم يعد يرى في البوليساريو شيئا غير عبء على حاضره ومستقبله.
ما تبقى في تندوف الآن، حسب تقارير الشهود، هو صمت ثقيل… يتخلله صوت انفجارات في السماء.