في الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن إصلاح المنظومة الصحية، خرج الصيادلة هذه المرة عن صمتهم، معلنين عن برنامج احتجاجي غير مسبوق يترجم حالة الغليان داخل القطاع. فابتداء من 18 غشت الجاري وحتى 9 شتنبر المقبل، سيرتدي الصيادلة شارات سوداء إيذانا ببداية مواجهة مع وزارة الصحة، على أن يتوج هذا المسار باعتصام وطني أمام مقر الوزارة بالرباط. خطوة تراها “الكونفدرالية الوطنية لنقابات صيادلة المغرب” ردا ضروريا على ما وصفته بـ”البلوكاج الممنهج” الذي عطل نتائج سنوات من الحوار.
الغضب الصيدلاني لا يتوقف عند تفاصيل شكلية، بل يمس جوهر السياسة الدوائية بالمغرب. إذ يعتبر الصيادلة أن الوزارة أعدت مشروع مرسوم لتحديد أسعار الأدوية بشكل انفرادي، دون إشراك ممثلي المهنة أو أخذ مقترحاتهم بعين الاعتبار. الرئيس محمد لحبابي يؤكد أن الوزارة فاوضت في جلسة يتيمة، ثم مضت في طريقها لإحالة النص مباشرة على المجلس الحكومي، في ما يشبه تجاوزا صارخا لمبدأ التشاركية.
الأمن الدوائي على المحك… غضب الصيادلة يكشف خلل المنظومة الصحية
وإذا كان ملف الأسعار أحد العناوين الكبرى للأزمة، فإن أصل العطب أعمق بكثير. فالقانون المحدث لهيئة الصيادلة صدر منذ يونيو 2023، لكنه ظل معلقا بسبب غياب المراسيم التطبيقية، ما جعل انتخابات الهيئة الجديدة مجمدة، تاركة قطاعا كاملا دون مؤسسة شرعية تمثله. هذه “الفجوة المؤسساتية”، كما يسميها الصيادلة، أضعفت المهنة ودفعت عشرات الملفات إلى المجهول.
تتسع الهوة أكثر حين يتعلق الأمر بالأمن الدوائي. فبينما يفترض أن تظل الصيدليات المرجع الوحيد لتوزيع الأدوية، تغزو السوق ممارسات غير قانونية: بيع مباشر داخل بعض المصحات، وتسويق عبر وسائط التواصل الاجتماعي، بل وحتى ترويج لأدوية مزورة. أخطر من ذلك أن الوزارة – حسب الصيادلة – لم تتدخل بالصرامة اللازمة لوقف هذه الفوضى التي تهدد حياة المرضى.
ولأن معاناة الصيادلة لا تقف عند حدود المنافسة غير المشروعة، فهم يواجهون أيضا خطرا قانونيا يطال سمعتهم وحريتهم. فالنص المنظم للمواد السامة الصادر سنة 1922 لم يعد يستجيب للتحولات الراهنة، ما جعل صيادلة يسقطون ضحايا وصفات طبية مزورة. ستة منهم أدينوا بالسجن فعلا، أحدهم في الخامسة والستين من عمره قضى عامين خلف القضبان قبل أن يستعيد حريته بعفو ملكي.
إلى جانب ذلك، يرفع الصيادلة مطلبا يعتبرونه أساسيا لحماية المرضى: الحق في تعويض الدواء غير المتوفر ببديل مشابه. وهو حق معمول به في بلدان مجاورة كفرنسا والجزائر وتونس، لكنه ما زال ممنوعا في المغرب رغم أن البلاد تواجه خصاصا يتجاوز 600 دواء أساسي لعلاج أمراض مزمنة مثل السكري وضغط الدم وبعض أنواع السرطان. بالنسبة للصيادلة، كان هذا الحق سيجنب المرضى مأساة التنقل بين الصيدليات بحثا عن علاج مفقود.
المشهد إذن يكشف عن أزمة مركبة: فراغ مؤسساتي، قوانين متجاوزة، احتكار مهدد بالانهيار، وأمن دوائي مهدد أكثر من أي وقت مضى. وإذا ظل الوضع على ما هو عليه، فإن الاحتجاجات المعلنة قد تتحول إلى مواجهة طويلة النفس، عنوانها الرئيسي تراجع ثقة الصيادلة في مؤسسات الدولة. فهل تستوعب الحكومة الرسالة وتفتح حوارا حقيقيا قبل أن تتفاقم الأزمة؟