في قراءة تحليلية جريئة، دعا القاضي الإسباني السابق والمستشار القانوني الدولي خورخي كاريرا، سلطات بلاده إلى مراجعة جذرية لطريقة تعاملها مع المغرب، مؤكدا أن التصورات الكلاسيكية التي دأبت مدريد على تبنيها لم تعد صالحة لفهم مغرب اليوم.
التحول الذي يشهده المغرب، حسب ما ورد في المقال المنشور بجريدة Confilegal الإسبانية، تجاوز بكثير الصورة النمطية كدولة نامية أو مجرد شريك تجاري أو جار متقلب. إنه، برأي كاريرا، بات فاعلا إقليميا وازنا له طموحات معلنة وسياسات مدروسة بدقة.
ويعود هذا التحول في جوهره إلى ما يعرف بـ”النموذج التنموي الجديد”، الذي لا يعد برنامجا اقتصاديا فقط، بل رؤية استراتيجية شاملة يرعاها الملك محمد السادس بنفسه، وتهدف إلى تموقع المغرب كقوة صاعدة إقليميا ودوليا في أفق سنة 2035.
ورغم أن التقدم الاقتصادي الذي يحققه المغرب في مجالات مثل صناعة الطيران والسيارات وجلب الاستثمارات الأجنبية، قد يوحي بميل نحو انفتاح سياسي، فإن كاريرا يرى العكس: هذا التحديث يعزز من قدرة الدولة على الضبط والتحكم ورسم سياسات بعيدة المدى بمرونة مفقودة لدى الديمقراطيات الغربية.
المبادرة الأطلسية واتفاقات أبراهام
وعلى المستوى الجيوسياسي، يشيد كاريرا بما وصفه بـ”العبقرية الاستراتيجية” المغربية، من خلال محورين رئيسيين: أولهما التوجه نحو إفريقيا عبر مشروع “المبادرة الأطلسية” الذي يفتح موانئ المغرب في وجه الدول غير الساحلية، وتحديدا من خلال ميناء الداخلة في قلب الصحراء المغربية، ما يشكل تثبيتا فعليا للسيادة المغربية على الإقليم.
أما التحول الثاني، والأكثر حساسية في نظر المحلل الإسباني، فهو صفقة “اتفاقات أبراهام” التي فتحت للمغرب بوابة الاعتراف الأمريكي بسيادته على الصحراء، مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وهو تطبيع لم يتوقف عند البعد الدبلوماسي بل امتد إلى التعاون العسكري المتقدم، مما غير موازين القوى في المنطقة، خصوصا بعد حصول الرباط على تقنيات إسرائيلية متطورة مثل طائرات هجومية وأنظمة دفاع جوي وصواريخ دقيقة.
وفي ظل هذه الدينامية، تجد إسبانيا نفسها، بحسب كاريرا، أمام معضلة معقدة. فبعد أزمة 2021 المرتبطة باستقبال زعيم البوليساريو، وما تبعها من تصعيد مغربي وتدفق جماعي نحو سبتة، اضطرت حكومة سانشيز إلى إرسال رسالة تعترف فيها بأن مبادرة الحكم الذاتي المغربية تمثل “الأساس الأكثر جدية ومصداقية” لحل النزاع. غير أن ذلك لم يفض إلى تطبيع كامل، إذ لم تنفذ الرباط التزامات مثل فتح الجمارك بشكل كامل في سبتة ومليلية، مما يؤكد أن المغرب يتعامل مع هذه الملفات بوصفها أوراق ضغط سيادية لتحقيق هدفه الأسمى: السيادة الكاملة على الصحراء.
كاريرا يطالب مدريد بسياسة خارجية “صلبة” تجاه المغرب
كما نبه المحلل الإسباني إلى أن المغرب يستخدم علاقاته الاقتصادية، التي تجعل إسبانيا شريكه التجاري الأول، كوسيلة نفوذ وليس كحاجز يمنع الأزمات، ويمتد ذلك إلى مواقفه من سبتة ومليلية وجزر الكناري.
أما على المستوى الأوروبي، فقد استطاع المغرب، حسب كاريرا، استغلال غياب موقف موحد داخل الاتحاد الأوروبي، مفضلا تعزيز العلاقات الثنائية مع باريس ومدريد. وضمن هذا السياق، يبرز التناقض القانوني الذي يعاني منه الاتحاد، حيث ترفض أعلى محاكمه اتفاقيات تجارية تشمل موارد من الصحراء، ما يشكل أحد أبرز نقاط ضعف أوروبا أمام النفوذ المغربي المتنامي.
وفي ختام تحليله، يؤكد كاريرا أن على مدريد التخلي عن منطق المجاملة وامتلاك سياسة خارجية صلبة، تبدأ بتوافق داخلي حول علاقة البلاد بالمغرب، وترسي حدودا واضحة لا تقبل المساومة بخصوص السيادة على سبتة ومليلية وملف الهجرة.
فالجار الجنوبي، يقول كاريرا، لم يعد رقما سلبيا في المعادلة، بل لاعب نشيط يستخدم أدوات العصر بكفاءة، من التكنولوجيا إلى الشراكات الأمنية، ومن المشاريع القارية إلى الدبلوماسية متعددة المسارات. فاعل يجمع بين صبر الملكيات الاستراتيجية، وجرأة القوى الصاعدة.