بين 18 و19 شتنبر 2025، عبر البحر الأبيض المتوسط خلسة نحو أليكانتي الإسبانية، في مشهد يشبه فصول رواية بوليسية داكنة. تأكد الخبر لا عبر قنوات رسمية، بل من خلال قلم مأجور للنظام، الصحفي الإسباني السابق إغناسيو سمبريرو، الذي كشف القصة في إل كونفيدنسيال. ومنذها، تهاوت هالة القوة التي حاولت السلطة تسويقها، وبرزت ملامح نظام مأزوم ينخره الشك، تحكمه صراعات الأجنحة، ويعجز عن السيطرة على وحوشه الخاصة.
حداد ليس جنرالا عاديا. خريج «الحرب القذرة» في تسعينيات الجزائر، مخضرم في اختراق الجماعات المسلحة، وصاحب خبرة في دهاليز الدولة العميقة. حين رقاه الرئيس تبون عام 2024 إلى قيادة المديرية العامة للأمن الداخلي (DGSI)، بدا الأمر إشارة إلى تحصين النظام. لكن سرعان ما أقيل، ثم سجن، قبل أن يوضع تحت الإقامة الجبرية. الأسباب بقيت غامضة، لكن همسات الكواليس تحدثت عن اقترابه من شبكات فساد تطال المحيط الرئاسي.
ورغم الطوق الأمني المشدد، تمكن «الجن» من تنفيذ ما كان يبدو مستحيلا: الهروب. وعند وصوله إلى إسبانيا، صرّح: «كنت سأغتال قبل محاكمتي، وكانوا سيلفقون موتي على أنه انتحار». اتهام مباشر يهز صورة تبون وشنقريحة معا.
فراره كشف انهيار آليات الرقابة. مروحيات في السماء، حواجز في الطرق، مداهمات في الأحياء.. العاصمة شلت، في مشهد ذكر بـ«العشرية السوداء». لكن كل ذلك كان بلا جدوى: «الجن» كان قد اختفى. والسلطة، على غير عادتها، اختارت الصمت. وفي نظام اعتاد أن يضخ الصور والبيانات عند كل «انتصار»، فإن الغياب هنا كان أبلغ اعتراف بالفشل.
إسبانيا لم تكن وجهة عابرة، بل ملاذا تقليديا لجنرالات الجزائر الغاضبين أو المنبوذين. من خالد نزار إلى حبيب شنتوف، صارت كوستا بلانكا أشبه بمكب ذهبي لبقايا النظام العسكري. وعودة حداد إليها مجدداً، بعد تجربة سابقة عام 2022، تكشف هشاشة جهاز يزعم العصمة.
الأخطر أن الرجل يحمل ملفات تتجاوز صراعات الداخل. وفق مجلة بانوراما الإيطالية، فإن حداد يملك تفاصيل الصناديق السوداء، روابط تبون وشنقريحة، والأهم الدعم المتعدد لجبهة البوليساريو، إضافة إلى التنسيق السري مع إيران وحزب الله. هذه الأسرار، إن فجرت، قد تعيد رسم موازين القوى في المغرب الكبير ومنطقة الساحل، حيث تحولت تندوف إلى عقدة تهريب وتسليح وملاذ لميليشيات.
السلطة الجزائرية تدرك ذلك. لذلك، فإن كل لحظة يقضيها «الجن» في منفاه تمثل تهديدا وجوديا. فالرجل يملك أسلحة لا يملكها العسكر: الأرشيف السري للسلطة. ومن هنا، لا يستبعد أن تكون المفاوضات جارية لشراء صمته.