اللعب لم يعد مجرد تسلية للأطفال، بل أصبح شأنا جديا يخص سلامتهم وصحتهم المستقبلية. ففي قرار تاريخي، وافق المجلس الأوروبي على حزمة قواعد جديدة تهدف إلى حماية الأطفال من المخاطر الكامنة في ألعابهم، من الاختناق والبلع إلى التعرض لمواد كيميائية سامة تعطل النمو وتهدد الأجيال القادمة.
القرار، الذي تم التصويت عليه في 13 أكتوبر، يتجاوز مجرد تشديد الرقابة؛ إنه يفتح فصلا جديدا في علاقة أوروبا بصناعة الألعاب. أبرز ما جاء فيه: إلزام كل لعبة بامتلاك “جواز سفر رقمي” — وثيقة إلكترونية ترافق كل منتج من المصنع إلى يد الطفل، وتكشف مصدره، ومكوناته، ومدى توافقه مع لوائح الاتحاد الأوروبي الصارمة.
من الصافرة إلى السم الخفي
التحقيق الذي أجرته جمعية صناعة الألعاب الأوروبية (TIE) كان الشرارة الأولى. الجمعية اشترت أكثر من مئة لعبة من منصات شهيرة مثل AliExpress وAmazon Marketplace وShein وTemu، لتكتشف أن 80% منها لا تتوافق مع معايير السلامة الأوروبية.
صافرة صينية بخيط طويل كاد يختنق به الأطفال، مخاط اصطناعي يحتوي على مادة البورون التي تضعف الخصوبة، وألعاب مغناطيسية قد تبتلع بسهولة… كلها أمثلة تحولت إلى رموز لفوضى سوق الألعاب العالمية.
القواعد الجديدة تجعل من المستوردين مسؤولين عن تقديم “جواز السفر الرقمي” عند دخول البضائع حدود الاتحاد الأوروبي. وستتكفل أنظمة معلوماتية متطورة بفحص تلك الجوازات وتحديد المنتجات المشبوهة قبل وصولها إلى المستهلك.
ووفقا للمجلس الأوروبي، فإن هذه الخطوة “ستبسط الإجراءات ضد الألعاب الخطرة وتضمن منافسة عادلة بين المصنعين”، في وقت تشهد فيه الأسواق الإلكترونية انفجارا في عدد المنتجات المجهولة المصدر.لكن رغم الحماس الرسمي، ما تزال الخطوة بحاجة إلى موافقة البرلمان الأوروبي قبل دخولها حيز التنفيذ، مع فترة انتقالية تصل إلى أربع سنوات ونصف لتمنح القطاع فرصة للتأقلم مع المتطلبات الجديدة.
إلى جانب الرقابة التقنية، تحمل القواعد الجديدة منعا صارما لاستخدام المواد الكيميائية المسرطنة والمسببة للطفرات والمواد السامة للتكاثر.
كما تم توسيع الحظر ليشمل المواد المعطلة للغدد الصماء مثل البيسفينول والفثالات، وهي مركبات تؤثر على التوازن الهرموني، وتسبب عقما وتشوهات خلقية وتزيد خطر السرطان.
ويعتبر الأطفال الأكثر هشاشة أمام هذه المواد، نظرا لأن أجهزتهم العصبية والهرمونية لم تكتمل بعد.
حتى المواد الكيميائية الدائمة (PFAS)، التي تعرف باسم “الملوثات الأبدية”، لم تفلت من مقصلة التشريعات الأوروبية الجديدة. فرغم السماح المحدود باستخدامها في أجزاء إلكترونية مغلقة داخل الألعاب، إلا أن بروكسيل تمهد الطريق نحو حظر شامل في المستقبل القريب.
أوروبا تنظف لعب أطفالها
الملف الكيميائي تحول إلى قضية سياسية أوروبية بامتياز. ففي العام الماضي، تقدمت خمس دول — الدنمارك وألمانيا وهولندا والنرويج والسويد — بمقترح جماعي لحظر شبه كامل لمركبات PFAS في إطار لائحة REACH.
حتى جيسيكا روزوال، المفوضة الأوروبية للبيئة، كشفت أنها شخصيا تحمل ستة أنواع من هذه المركبات في دمها، مؤكدة أن التجربة “عززت إصرارها على الدفع نحو حظر أوروبي سريع وشامل”.
وقالت روزوال:“سلامة الأطفال لا يجب أن تكون خيارا، بل حقا. لن نسمح بأن تتحول ألعابهم إلى مصدر خطر خفي داخل بيوتنا.”
في المقابل، تواجه المنصات التجارية الكبرى مثل Temu وAliExpress وShein تحقيقات أوروبية متزايدة بسبب بيع منتجات غير مطابقة للمعايير، بعضها يحتوي على مواد محظورة. وتخضع Temu حاليًا لتحقيق بموجب قانون الخدمات الرقمية (DSA) بعد اتهامها بالفشل في مراقبة المخاطر المرتبطة بالبضائع الخطرة على منصتها.منظمات المستهلكين، مثل BEUC، اعتبرت أن جواز السفر الرقمي خطوة مهمة لكنها غير كافية. وقالت مديرة التنسيق بالمنظمة، سيلفيا مورير، إن “الأسواق الإلكترونية يجب أن تتحمل المسؤولية القانونية عندما تباع عبرها ألعاب غير آمنة”.
القواعد الجديدة لا تغير فقط طريقة بيع الألعاب، بل تعيد تعريف مفهوم الأمان في حياة الطفل الأوروبي.
فبعد أن كانت أوروبا تتحدث عن حقوق اللعب، ها هي اليوم تتحدث عن حق اللعب الآمن.
وبين جواز السفر الرقمي والرقابة الكيميائية، يبدو أن بروكسيل قررت أن تجعل من كل لعبة تباع في القارة قطعة ثقة لا تهدد الطفولة، بل تحميها.