في زمن تتسارع فيه الأخبار وتتكاثر فيه المصادر، تحولت الاحتجاجات الشبابية المشروعة إلى ساحة اختبار لآلة تضليل إلكترونية منظمة تهدف إلى إضعاف ثقة المواطن بالبلاد وضرب عمودها الفقري الاقتصادي. شبكات من الحسابات الوهمية والحقيقية، بلغات متعددة وآليات آلية، تضخ يوميا قصصا مفبركة وصورا مزيفة وفيديوهات محرفة تصب في اتجاه واحد: تحويل غضب الشارع إلى ذريعة للفوضى، وإلحاق أضرار فورية بسياحتنا واستثماراتنا وسمعتنا الدولية.
الذباب الإلكتروني الذي يستغله أعداء المصالح الوطنية لا يكتفي بنشر الأكاذيب؛ بل يصوغها بعناوين مرعبة — تلوث منتج غذائي، تفش صحي مفبرك، جريمة ملفقة، أو «فضيحة» تضمن لها الانتشار العاطفي السريع. وكلما صعدت وتيرة النشر، ضاعف بعض المستخدمين العاديين من وقع الشائعة من دون تحقق، فانطلقت سلاسل الإلغاء والتأجيل والتردد لدى زوار محتملين ومستثمرين، فيضيع اقتصادنا قبل قرارات متسرعة مبنية على معلومات زائفة.
الأجيال الشابة ــ وخصوصا «جيل زد» ــ هي الحلقة الأضعف في هذه المعادلة؛ لغة المحتوى موجزة، جذابة وبصرية، ومنشورات قصيرة تصل مباشرة إلى الهواتف دون وقت كاف للتفكر. هؤلاء الشباب يستحسنون المشاركة السريعة، وغالبا ما يستغلون كمضاعفين لموجات التضليل، بل كمحرضين لاختراق الحواجز الأمنية عبر دعوات مبطنة أو مباشرة للعنف أو التخريب. هذا الاستهداف يضع مسؤولية مزدوجة: على الدولة لحماية المجتمع، وعلى المجتمع لتعزيز ثقافته الرقمية.
الحل العملي والفاعل ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية: إطلاق منصة رسمية مركزية مختصة بالتحقق من الأخبار ومكافحة التضليل، تعتمدها وسائل الإعلام والمواطنون كمرجعية موثوقة. هذه المنصة يجب أن تعمل بلغات متعددة، تبث دحضا سريعا ومصادقا لكل إشاعة، وتتيح واجهات برمجية للصحافة والمهنيين كي يعيدوا نشر التوضيحات الموثوقة فورا. كما ينبغي ربطها بقنوات رسمية على الشبكات الاجتماعية لتوسيع دائرة الوصول وبآليات إشعار فوري للقطاعات الأكثر حساسية كالسياحة والاستثمار.
وليس المطلب تقنيا فقط؛ فنجاعة هذه المبادرة مرتبطة بفريق متكامل يعمل 24/7 يضم مختصي تحقق رقمي، قانونيين، ومتحدثين بلاغيين قادرين على صياغة رسائل واضحة ومطمئنة. إلى جانب ذلك، يجب إدماج أدوات ذكاء اصطناعي للكشف المبكر عن موجات البوتات والحسابات الآلية، مع تصعيد تدخل بشري للتحقق قبل إصداره. التنسيق مع منصات التواصل لإزالة المحتوى التحريضي بسرعة، ودعم مبادرات التحقق المستقلة سيعززان مصداقية العمل ويثبتان للداخل والخارج أننا نتصدى للافتراس المعلوماتي بشكل مهني وشفاف.
في منتصف المعركة المعلوماتية هذه، لا بد من حملة توعوية طويلة الأمد تستهدف المدارس والجامعات وأولياء الأمور، لزرع ثقافة التحقق والتمييز بين الخبر والرأي والشائعة. من شأن حملات «الذكاء الإعلامي» أن تقوي مناعة المجتمع ضد الانسياق وراء منشور واحد، وتقلص هامش المناورة أمام أي محدث أو ممول يحاول استغلال غضب الشباب لصالح أجندات خارجية أو داخلية مضرة.
أمام تهديد مباشر للاقتصاد الوطني ولنمط عيشنا، الاعتراف بالمعركة ونشر خطة وطنية بسيطة التنفيذ لكن دقيقة المضمون هو أقل ما يمكن فعله؛ منصة رسمية متكاملة مع فريق استجابة سريعة، أدوات تقنية ذكية، وشبكة تعاون مع الإعلام والمجتمع المدني. حماية سمعتنا الاقتصادية والإنسانية ليست خيارا؛ بل واجب وطني لا يتحقق إلا باستراتيجية عملية وواضحة الآن، قبل أن تتحول شائعة صغيرة إلى كارثة حقيقية.