لم يكن ميناء “الحمدانية” مجرد مشروع بنية تحتية في دفتر الحكومة الجزائرية، بل كان صورة مصغرة عن طموح دولة أرادت أن تعلن نفسها لاعبا لوجستيا في البحر الأبيض المتوسط، من خلال ورقة صينية مطوية باسم “الحزام والطريق”.
لعشر سنوات، ظل المشروع يتنقل بين الخطب الرسمية وعناوين الإعلام المحلي، كرمز للنهضة المقبلة، ونقطة ضوء في نفق اقتصاد مأزوم. لكن خلف الأضواء، كان الميناء محاصرا ببيروقراطية عتيقة، ومصالح متقاطعة، وصفقات غير مرئية.
الخبر الذي نقلته صحيفة “لوبينيون” الفرنسية بدا كالصاعقة، لا فقط على المهتمين بالشأن الاقتصادي، بل حتى على أولئك الذين اعتادوا خطب الرئيس تبون وهو يلوح بالميناء كرمز للاستقلال اللوجستي، وبوابة نحو “إفريقيا الجديدة”.
لكن خلف هذا “التحول المفاجئ”، تكشف الخيوط عن شيء أكبر من مجرد مشروع تأخر إنجازه.
إنها قصة نفوذ فرنسي يتجدد في قلب المشهد الجزائري… من باب البحر.
في قلب هذه التحولات، يبرز اسم رودولف سعادة، رجل الأعمال الفرنسي-اللبناني، رئيس مجموعة CMA CGM، رابع أكبر شركة شحن بحري في العالم، والمقرب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
استقبله تبون في قصر المرادية، بابتسامة هادئة، في وقت كانت الصحف تراكم التسريبات حول توتر دبلوماسي متصاعد بين الجزائر وباريس، وصل إلى حد الحديث عن “تجميد أصول” مسؤولين جزائريين في فرنسا.
لكن اللقاء كان لافتا. لأن نتائجه جاءت سريعة: توقيع اتفاقيات جديدة مع مجموعة CMA، وإلغاء مشروع الميناء الصيني بشكل نهائي.
ميناء طنجة.. عقدة الجزائر
حين وقع الاتفاق الأول مع الصين، كانت الجزائر تتطلع إلى تقليد نموذج ميناء طنجة المتوسط، بل وربما تجاوزه.
لكن الأمور لم تمضِ كما خطط لها. قيمة المشروع ارتفعت من 3.3 مليار دولار في 2016 إلى نحو 6 مليارات في 2019، في ظل بيروقراطية منهكة، وتردد سياسي، وسوء تفاهم مزمن بين الحالمين بالصين، والمرتبطين – علنا أو سرا – بالدوائر الغربية.
في طنجة، لا أحد عبر عن موقف رسمي. فالميناء هناك يعمل بصمت، ينافس على المراتب الأولى عالميا، يبرم صفقات مع الشركات نفسها التي تتفاوض اليوم في الجزائر. لكن في الكواليس، يقال إن القرار الجزائري أسقط منافسا محتملا من السباق، وترك CMA الفرنسية تركز على ما بقي من جغرافيا الجنوب.