توصلت دراسة جديدة إلى أن البوتوكس، المعروف بشكل رئيسي بتطبيقه في الإجراءات التجميلية للحد من التجاعيد والخطوط في الوجه، قد يكون له دور مهم في علاج بعض اضطرابات الصحة العقلية. يعتقد العلماء أن هذا الإجراء يمكن أن يكون فعالا في تقليل أعراض الاكتئاب والقلق.
يعمل البوتوكس على تخفيف العضلات عن طريق منع انتقال الإشارات العصبية التي تثير هذه العضلات. هذا التأثير العلاجي جذب اهتمام الباحثين في مجال الصحة العقلية، حيث تجنب تفعيل الاستجابات العاطفية السلبية في الدماغ يمكن أن يكون مفيدا في علاج اضطرابات المزاج والاكتئاب.
يشير تقرير الدراسة إلى أن حقن البوتوكس يفتح أفاقا جديدة للبحث حول كيفية تحسين العلاجات المتاحة للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الصحة العقلية. ورغم أن استخدامه في هذا السياق لا يزال في مراحله الأولى، إلا أن النتائج الأولية واعدة وتشير إلى إمكانية استفادة أوسع من البوتوكس في المستقبل.
البوتوكس في عالم الصحة العقلية: استهداف “عضلات الحزن
يأتي استخدام البوتوكس في مجال الصحة العقلية بفكرة مبتكرة تهدف إلى استهداف ما سمي بـ “عضلات الحزن”، وهي العضلات التي تتحكم في تعبيرات الوجه خلال حالات الحزن والاكتئاب. يقوم الباحثون بهذا النهج بالاستناد إلى نظريات علم النفس والتطور، بما في ذلك تلك التي اقترحها تشارلز داروين.
الدكتور أكسل فولمر، الباحث في مجال الطب النفسي والتابع للحرم الجامعي أسكليبيوس هامبورغ بجامعة سيملويس وأحد كبار مؤلفي الدراسة، أشار إلى أن هذا المفهوم يستند إلى الافتراض القائل بأن تعبيرات وجوهنا لا تعكس حالتنا العاطفية فقط للآخرين، بل تؤثر أيضا على مشاعرنا الشخصية.
وبموجب هذه النظرية، فإن تعبيرات الوجه تلعب دورا أكبر من مجرد عبور المشاعر، حيث يمكن لتلك التعبيرات أن تعزز أيضا تلك المشاعر. فمثلا، تعبيرات الوجه المرتبطة بالحزن قد تعمل على تعزيز الشعور بالحزن نفسه.
ويشير الباحثون إلى أن هذا التفاعل بين التعبيرات الوجهية والمشاعر العاطفية قد يلعب دورا مهما في الحالات الصحية العقلية، وقد يتم استهدافه من خلال استخدام تقنيات البوتوكس لتخفيف هذا التأثير الدوري لتعبيرات الوجه على المشاعر العاطفية، مما يفتح أفاقًا جديدة لتحسين علاجات الاكتئاب والقلق.
استرخاء “عضلات الحزن“
بالتعاون مع باحثين من كلية الطب في هانوفر في ألمانيا، شرع فولمر وفريقه في البناء على الأبحاث السابقة حول حقن البوتوكس في منطقة المقطب – وهي منطقة الوجه فوق الأنف وبين الحاجبين، والتي غالبا ما يتوتر الناس عندما يقومون بها. تجربة المشاعر السلبية.
وقال ولمر: “بمجرد تنشيط عضلات الوجه للتعبير عن المشاعر، فإننا نولد إشارة استقبال ترجع من الوجه إلى الدماغ العاطفي والتي تعزز هذه الحالة العاطفية وتحافظ عليها”.
“فقط من خلال تجسيد هذه المشاعر، نشعر بها حقًا على أنها عاطفة دافئة وكاملة. وبمجرد أن نقمع هذا التجسيد، تهدأ المشاعر ولا ينظر إليها على هذا النحو بعد الآن”.
أراد العلماء التقاط ما يحدث في الدماغ عندما تنكسر حلقة ردود الفعل الإيجابية هذه، وذلك عن طريق إرخاء عضلات الحزن. في هذه الدراسة، نظروا إلى 45 مريضة تعاني من اضطراب الشخصية الحدية (BPD)، وهو أحد اضطرابات الشخصية الأكثر شيوعا.
وأوضح الفريق أن المرضى الذين يعانون من اضطراب الشخصية الحدية يعانون من “زيادة في المشاعر السلبية”، بما في ذلك الغضب والخوف. وقال وولمر إن مرضى اضطراب الشخصية الحدية هم “نموذج أولي إلى حد ما للإرهاق مرارا وتكرارا بسبب مجموعة من المشاعر السلبية التي لا يمكنهم السيطرة عليها حقا”.
تطور البحث: البوتوكس والوخز بالإبر في التحكم بالردود العاطفية
خلال هذا البحث، قام بعض المشاركين بتلقي حقن البوتوكس، بينما تلقت المجموعة الضابطة العلاج بالوخز بالإبر. قبل وبعد العلاج بأربعة أسابيع، أُلحِق بالمشاركين مهمة تعرف بمهمة الانطلاق العاطفي. في هذه المهمة، طلب منهم التحكم في ردود أفعالهم تجاه إشارات معينة أثناء مشاهدتهم صورا لوجوه تعبيرية مختلفة. تمت هذه العملية وفحص أدمغتهم باستخدام تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (MRI).
أظهرت نتائج هذه التجربة تحسنا مشابها بعد العلاج لدى كل من مرضى البوتوكس والوخز بالإبر. ولكن الباحثين أشاروا إلى نتيجتين إضافيتين أكثر إثارة.
تحفيز اللوزة الدماغية
ومن خلال التحليل باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي،.. تمكنوا لأول مرة من استعراض كيف يمكن للبوتوكس أن يؤثر على الجوانب العصبية لاضطراب الشخصية الحدية. أظهرت الصور تراجعا في نشاط منطقة اللوزة الدماغية ردا على المحفزات العاطفية.
وأوضح الدكتور أكسل فولمر، الباحث وخبير الطب النفسي في جامعة سيملويس بألمانيا، أن هذا النتيجة تشير إلى “تأثير مهدئ” للبوتوكس على اللوزة الدماغية، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة المشاعر السلبية والتي تكون فعاليتها مفرطة لدى مرضى الاضطراب الشخصي الحدي. ولم يتم رصدها في المجموعة الضابطة التي تلقت الوخز بالإبر.
تأثير البوتوكس في تحسين الردود العاطفية ومكافحة الاكتئاب
أظهرت الدراسة أن البوتوكس ليس مجرد إجراء تجميلي، بل يمكن أن يلعب دورا في تحسين الصحة النفسية. لاحظ الباحثون أن البوتوكس قلل من السلوك الاندفاعي للمرضى في مهمة الذهاب أو عدم الذهاب،.. وتم ترتيب ذلك مع تنشيط مناطق الفص الجبهي في الدماغ التي تسهم في التحكم المثبط.
يجب أن نلاحظ أن هناك قيودا على نطاق الدراسة نظرا لصغر عدد المشاركين، حيث لا يتجاوز 45 شخصا. ومن المهم أيضا أن نعرف أن المشاركين قد يكونون على علم بنوع العلاج الذي يتلقونه،.. مما يجعل تقييم تأثيرات البوتوكس أمرا صعبا.
ماذا تقول الدراسات السابقة
دراسات سابقة قد استكشفت قدرة البوتوكس على تغيير الردود العاطفية في مناطق مختلفة من الجسم والوجه. ففي دراسة أُجريت عام 2021، تم تحليل بيانات كبيرة تضم أكثر من 40 ألف شخص استخدموا البوتوكس للعلاج،.. وأشارت النتائج إلى أن اضطرابات القلق انخفضت بنسبة تتراوح بين 22 إلى 72 في المائة بالمقارنة مع المرضى الذين تلقوا علاجات أخرى.
في دراسة مماثلة أُجريت عام 2020، تم التحدث عن تأثيرات محتملة للبوتوكس في مكافحة الاكتئاب،.. حيث تشير البيانات إلى أنه يمكن استخدامه لعلاج الاكتئاب وربما لديه تأثير وقائي أيضا. الدكتور أكسل فولمر، الباحث الرائد في هذا المجال،.. يؤكد أن هناك تغييرات في بنية الدماغ تعتبر مهمة جدا لمعالجة المشاعر السلبية، مما يجعل البوتوكس أداة محتملة لمعالجة الاكتئاب.
أشار الباحث إلى أن العلاجات المعتادة مثل العلاج النفسي والمضادات الاكتئابية لا تكون فعالة بما يكفي لنحو ثلث المصابين بالاكتئاب، مما يجعل من الضروري البحث عن خيارات علاجية جديدة. وفي هذا السياق، يمكن أن يلعب حقن BTX دورا مهما.
يطمح الدكتور فولمر، الذي كان عضوا في المجلس الاستشاري لشركة Allergan المصنعة للبوتوكس،.. إلى أن يتم توجيه المزيد من الأبحاث نحو إجراء دراسات سريرية كبيرة من المرحلة الثالثة لاختبار فعالية هذا النهج. ومن ثم، ستسمح هذه الدراسة الكبرى للباحثين بتقدير مدى إمكانية استخدام حقن البوتوكس لعلاج حالات أخرى متعلقة بالصحة العقلية.