في بلاد تسكنها القوانين وتغيب عنها العدالة، وفي وطن تشيد فيه المحاكم ولا يسمع فيه المظلوم، قرر شاب جزائري أن يستبدل صوته بالنار، وأن يجعل من جسده منبرا أخيرا لنداء يائس.
الأحد، فاتح يونيو 2025، أمام بوابة وزارة العدل الجزائرية – لا أمام مقر للحرب ولا ساحة للقتال – وقف فوزي زقوط، ثلاثيني من مدينة فرندة، بثياب رسمية وقنينة بنزين، ليعلن بالصمت واليأس والاحتراق أن العدالة في بلاده صارت رمادا.
كان يمكن له أن يكتب منشورا، أن يعتصم، أن يشتكي… لكنه جرب كل ذلك، ولم يُسمع. فاختار أن يحمل النار ما لم تعد الكلمة تقدر على حمله: الغبن، القهر، والخذلان.
في لحظة انسكب فيها البنزين على جسده كما ينسكب الغضب في العروق، لم يكن الموت هدفا، بل كان الاحتراق وسيلة ليحيا صوته، ولو لثوان. أراد أن يرغم الجميع على النظر. أن يضع مرآة اللهب أمام وجه السلطة، لتبصر كم من فوزي احترقوا من الداخل دون أن يشعلوا النار.
عدالة مع وقف التنفيذ
زقوط، ناشط جمعوي نقي السيرة، حول تطوعه لمساعدة المرضى إلى قضية “أمن دولة”. تهديد بالسجن لعشر سنوات لأنه لم يطلب ترخيصًا قبل أن يطلب الرحمة لمرضى الفشل الكلوي. تلك كانت جريمته.
في الجزائر الجديدة – كما تسمى رسميا – بات الخير محفوفا بالخطر، والمبادرة المدنية شبهة، والمواطن الملتزم مشروع مدان.
فحين مثل فوزي أمام المحكمة بتهمة جمع تبرعات دون رخصة، كان واضحا أنه ليس المتهم الوحيد. بل كانت الإنسانية برمتها في قفص الاتهام، وكان القاضي مجرد أداة.
النار تفضح من يخفي الجمر
ما فعله زقوط هز القلوب، لكنه فضح أكثر مما حرك. فضح نظاما يجرم النوايا الطيبة، ويضع مؤسساته لخدمة صورة زائفة عن “دولة القانون”، بينما القانون في الواقع يستعمل كسوط لتأديب المواطن، لا كسقف لحمايته.
مقاطع الفيديو التي وثقت لحظة الحرق انتشرت بسرعة، لا لأن المشهد غريب، بل لأن الجزائريين رأوا فيه أنفسهم، مقيدين، محروقين، مطاردين بصمت من قِبل قضاء يقتات من الخوف.
إعلام يدفن الحكاية
الإعلام الرسمي، كعادته، لم يرَ في المشهد سوى “محاولة انتحار خطط لها آخرون”، وفتح “تحقيق” لمعرفة من صور ومن أوصل فوزي إلى هناك، بينما كان السؤال الحقيقي الذي رفض الجميع طرحه هو: من أوصل البلاد إلى هذه المرحلة من الاحتراق الداخلي؟
ما لم يقله التلفزيون الجزائري هو أن وزارة العدل لم تكن في نظر فوزي مؤسسة، بل جدارا صلبا اصطدمت به براءته، وأجبر على إحراقها لتصبح مرئية.