في تقرير دولي لافت، خصت جريدة ذي غارديان البريطانية مدينة الدار البيضاء بتحقيق موسع، اعتبر أن العاصمة الاقتصادية للمملكة تسير بخطى حثيثة لتثبيت موقعها كمركز مالي بارز في القارة الإفريقية، من خلال مشروع “كازابلانكا فاينانس سيتي” (CFC). غير أن التقرير لم يغفل أيضا الجدل القائم حول التفاوتات الاجتماعية التي تتسع داخل المغرب رغم الزخم الاستثماري الخارجي.
التقرير الذي نشر يوم الثلاثاء 3 يونيو 2025، أشار إلى أن المدينة التي طالما كانت عبر قرون ملتقى للتجارة العابرة بين أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط، تحاول اليوم إحياء هذا الدور التاريخي بمنطق معاصر، حيث تتجسد طموحاتها الاقتصادية في أبراج شاهقة ومناخ استثماري مشجع، تجسده منطقة CFC التي أطلقت في ديسمبر 2010.
أرقام وجاذبية عالمية
منذ انطلاقتها، استقطبت المنطقة المالية شركات من مختلف القارات، بفضل نظامها الضريبي التفضيلي، حتى بلغ عدد الشركات المستقرة بها 240 شركة، من بينها أسماء كبرى مثل “هواوي” و”شنايدر إلكتريك”، وفرت أكثر من 7000 منصب شغل. ورغم التراجع المؤقت في الاستثمارات خلال جائحة كوفيد-19، استعادت المنطقة زخمها لتصنف في مارس 2025 في المرتبة الرابعة ضمن المراكز المالية بمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، و56 عالميا في مؤشر المراكز المالية الدولية.
لمياء المرزوقي، المسؤولة التنفيذية لـCFC، أكدت في تصريحاتها لـ”ذي غارديان” أن المنطقة لا تقتصر على استقطاب رؤوس الأموال فقط، بل ترافق الشركات في توسعها داخل إفريقيا، وهو ما ينسجم مع التوجه الرسمي للمغرب الرامي إلى تعميق حضوره الاقتصادي في القارة.
استثمارات مغربية نحو القارة
المعطيات المرفقة بالتقرير كشفت أن الاستثمارات المغربية في إفريقيا انتقلت من 100 مليون دولار سنة 2014 إلى 2.8 مليار دولار في عام 2024، في مؤشر على تصاعد الطموح الإقليمي للرباط.
كما أورد التقرير أن CFC تشكل أحد الأذرع الاقتصادية التي تعتمد عليها الحكومة المغربية لتفعيل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، وهي اتفاقية أقرها الاتحاد الإفريقي سنة 2012، وبدأ تنفيذها فعليا سنة 2019، رغم بطء تنفيذها في بعض المجالات.
واحدة من النقاط اللافتة التي أبرزها التقرير البريطاني تتمثل في ربط جاذبية الدار البيضاء للاستثمارات بنظام الحكم المغربي. فرغم الانتقادات الموجهة إلى الملكية الدستورية، اعتبر التقرير أن هذه المؤسسة توفر “استقرارا سياسيا” يميز المملكة عن العديد من العواصم الإفريقية الأخرى التي تعاني من اضطرابات سياسية أو نزاعات.
وفي هذا السياق، نقلت المرزوقي أن المستثمرين الأجانب يرون في كازابلانكا منصة آمنة ومستقرة، وقالت: “حتى وسط الحروب التجارية العالمية والاضطرابات، يظل المغرب منصة مستقرة سياسيا واقتصاديا، وهذا ما يجعل الشركات تتدفق نحونا.”
الانتقادات.. وواقع التفاوت
رغم كل هذه الإيجابيات، لم يخف التقرير نبرة التحفظ تجاه “الواجهة الاستثمارية” التي تقدمها المنطقة، معتبرا أن الطفرة المالية لم تترجم إلى تقليص الفوارق الاجتماعية داخل المغرب. وأوضح أن أغلب الصادرات المغربية ما تزال تتوجه نحو الاتحاد الأوروبي، بنسبة تصل إلى الثلثين، ما يطرح علامات استفهام حول مدى عمق الاندماج المغربي الحقيقي في القارة.
وفي ردها على هذا الانتقاد،.. شددت المرزوقي على أن هذه المعطيات لا تعكس كل الدينامية التي تربط المغرب بباقي البلدان الإفريقية،.. مذكرة بوجود شراكات مالية واستثمارية متزايدة.
في قلب النقاش الإفريقي
على هامش منتدى “Africa CEO Forum” الذي انعقد في أبيدجان خلال شهر ماي،.. دعا رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا إلى تفعيل التعاون بين القطاعين العام والخاص لتعزيز التجارة داخل القارة،.. واصفا منطقة التجارة الحرة بأنها “المسار الضروري”.
المرزوقي وافقته الرأي، مؤكدة أن “أوقات الحروب التجارية تفرض علينا تسريع وتيرة الاندماج،.. والتجارة الحرة الإفريقية لم تعد خيارًا بل ضرورة إستراتيجية.”
ومن جهة أخرى، تحاول CFC توسيع آفاقها عبر مجالات ناشئة، منها الذكاء الاصطناعي والتمويل المستدام. فقد أطلقت “Africa Innovation Lab” لدعم شركات التكنولوجيا المالية،.. كما وقعت في شتنبر الماضي اتفاقية لإطلاق سوق طوعية للكربون، موجهة للقطاع الخاص،.. بهدف إنشاء منظومة بيئية منخفضة الانبعاثات.
ويذكر أن CFC تحتضن أيضًا صندوق “Africa50″،.. الذي أنشئ بشراكة مع البنك الإفريقي للتنمية برأسمال أولي بلغ 700 مليون دولار من 20 دولة إفريقية،.. لدعم مشاريع البنيات التحتية.
رغم كل هذه المبادرات، لا تزال التحديات قائمة. فعدد من المراقبين،.. بينهم المحلل Bright Simons من مركز إيماني للسياسات بغانا،.. اعتبروا أن المراكز المالية مثل CFC تستخدم “كحلول قصيرة الأمد”، تلتف على مشاكل القارة الحقيقية،.. مثل البيروقراطية والتشريعات المعطلة ونقص البنيات التحتية.
وقال بالحرف: “بدل إصلاح المشاكل الهيكلية، تتجه الحكومات الإفريقية نحو إنشاء مراكز مالية للالتفاف عليها… إنها أكثر الحلول براعة، ولكنها أيضا الأكثر سطحية.”
بين طموحات المغرب في الريادة القارية، والتحديات الداخلية العميقة،.. تقدم “كازابلانكا فاينانس سيتي” نموذجا فريدا من نوعه في إفريقيا: واجهة استثمارية جاذبة،.. لكنها ما تزال تتطلب ربط نجاحها الخارجي بتحسين العدالة الاقتصادية والاجتماعية داخل الوطن. فهل ستبنى أبراج الدار البيضاء على أرضية متينة من التوازن والإنصاف؟ الزمن كفيل بالإجابة.