بدأت ملامح الاقتصاد الرقمي في المغرب تتخذ مسارا أكثر وضوحا، مع بروز ظاهرة المؤثرين وصناع المحتوى كقوة تسويقية لا يمكن تجاهلها، خصوصا بعد أن كشفت دراسة حديثة عن أرقام صادمة في حجم تعاملات هذا القطاع خلال عام 2024.
فبحسب تقرير أصدرته مؤسسة “ديجي تريندز”، بلغ حجم سوق التسويق عبر المؤثرين بالمغرب حوالي 4.2 مليارات درهم، أي ما يعادل 420 مليون دولار، وهو ما يشكل 15 في المائة من رقم معاملات التجارة الإلكترونية الوطنية. وتظهر هذه الأرقام أن صناع المحتوى تحولوا إلى أدوات حقيقية في تحريك سلوك الاستهلاك بالمغرب.
هذا النمو لم يأت من فراغ. فالتجارة الإلكترونية عرفت بدورها ارتفاعا ملحوظا، حيث انتقلت من 20.7 مليار درهم في 2022 إلى نحو 22 مليار درهم في 2023، وهو ما يشير إلى ارتباط عضوي بين نجاح المؤثرين وتطور المنصات الرقمية للبيع.
لكن المفارقة التي رصدتها الدراسة تكمن في تغير سلوك الجمهور. ففي الوقت الذي تراجعت نسبة متابعة المؤثرين من 75% في 2022 إلى 51% في 2024، ارتفعت نسبة الأشخاص الذين يتأثرون بتوصياتهم من 35% إلى 57%. هذا التحول يشي بأن المتابع المغربي بات أكثر وعيا وانتقائية، ولم يعد يتفاعل مع كل محتوى يعرض عليه، بل ينتقي ما يتوافق مع حاجاته وقناعاته.
من الفكاهة إلى المال.. دراسة ترصد اهتمامات المغاربة وتأثير صناع المحتوى
أما بخصوص اهتمامات المتابعين، فقد كشفت الدراسة أن المحتوى الفكاهي لا يزال على رأس القائمة بنسبة 43%، متبوعا بمحتوى الطعام بنسبة 39%، ثم الموضة 34%، الجمال 33%، والسفر 32%. كما برز اهتمام متزايد بالمجالات التثقيفية مثل الصحة والرفاهية (28%)، المالية والاستثمار (27%)، والتنمية الذاتية (25%).
وفي موازاة هذا النمو، يواصل عدد مستخدمي الإنترنت في المغرب صعوده، إذ بلغ بحسب موقع Datareportal، حوالي 35.3 مليون مستخدم في يناير 2025، ما يعادل نسبة نفاذ تصل إلى 92.2% من إجمالي السكان. بينما أظهر تحليل أجرته شركة Kepios أن عدد المستخدمين الجدد خلال الفترة الممتدة من يناير 2024 إلى يناير 2025 بلغ 332 ألف مستخدم إضافي، مع استمرار حوالي 2.98 مليون مغربي خارج التغطية الرقمية.
هذه الدينامية فرضت على الدولة التدخل لتنظيم السوق. فقد دخل قرار ضريبي جديد حيز التنفيذ ابتداء من 1 يناير 2025، يقضي بإخضاع صناع المحتوى للضريبة على الدخل. وينص قانون المالية 2025، في مادته 70 مكرر، على اعتبار كل دخل ناتج عن أنشطة غير مصنفة لكنه يدر أرباحا، كدخل خاضع للضريبة.
ويعتبر خبراء السياسات العامة أن هذه الخطوة تأخرت كثيرا، لكنها تمثل إشارة قوية نحو تحقيق العدالة الضريبية وشفافية التعاملات الرقمية، خاصة أن بعض المؤثرين يجنون مبالغ ضخمة دون أي مراقبة مالية.
كما تم تصنيف إنشاء المحتوى على منصات التواصل ضمن الأنشطة التجارية الرقمية، مما يسمح بإدماج هذا القطاع في المنظومة الجبائية الوطنية. لكن خبراء يقترحون مرافقة هذا الإجراء بسياسة تواصلية واضحة، تديرها الوزارة المنتدبة المكلفة بالتحول الرقمي، عبر حملات توعية تشمل صناع المحتوى وتعرفهم بحقوقهم وواجباتهم الضريبية.
في المحصلة، يقف المغرب على عتبة تنظيم قطاع واعد، لكنه سريع التغير، ويحتاج إلى مقاربات ذكية تحفظ التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الجبائية، في زمن تحول فيه هاتف ذكي ومقطع فيديو إلى مصدر دخل يفوق أحيانا مداخيل مؤسسات قائمة.


