تواجه مدينة الدار البيضاء، التي طالما عرفت بتراثها المعماري الغني، موجة متسارعة من الهدم تهدد معالمها التاريخية، في ظل سباق محموم نحو تحديث النسيج العمراني. فرغم الجهود التي بذلت على مدى السنوات الماضية للحفاظ على مباني القرن العشرين، لا تزال العديد من البنايات ذات القيمة التاريخية عرضة للاندثار، ما يطرح تساؤلات حول التوازن بين التنمية الحضرية وصون الذاكرة الجماعية.
لم يكن التراث المعماري للدار البيضاء مجرد واجهات قديمة، بل كان انعكاسا لفترة من الإبداع العمراني شهدت بصمات رواد مثل ميشيل إيكوشار وجان-فرانسوا زيفاكو. منذ التسعينيات، قامت جمعية “كازاميموار” بعملية جرد شملت أكثر من 600 مبنى تراثي، ما دفع وزارة الثقافة إلى تصنيف بعض المواقع، مثل فيلا الفنون (2018) ومقر بنك المغرب القديم (2021)، ضمن قائمة التراث الوطني. غير أن هذه التدابير لم تكن كافية لحماية العديد من البنايات، حيث استمرت الجرافات في القضاء على معالم المدينة.
هدم بلا استشارة.. والحفاظ على الاستثناء
من بين الأحداث الأخيرة التي فجرت الجدل، هدم مبنى “بلوك بوعزة” في ماي 2024، وهو جزء من مجمع الحي البحري المصمم في خمسينيات القرن الماضي. هذا المبنى، الذي مثل نموذجا للسكن الاجتماعي المتكامل، أزيل دون استشارة مسبقة، بحجة قدمه واستبداله بمشاريع استثمارية جديدة. وعلى نفس المنوال، تواجه بنايات الدرك الملكي بشارع عثمان بن عفان، التي تعود إلى ستينيات القرن الماضي، المصير ذاته، رغم قيمتها المعمارية كأحد رموز “الفنكشونالية” الحداثية.
على الرغم من وجود قوانين لحماية التراث، مثل قانون 22-80 المتعلق بالمباني التاريخية، فإن تنفيذها يظل محدودا. في المقابل، يعاني الإرث المعماري للمدينة من ضعف التصنيف الرسمي، ما يتركه عرضة لقرارات الهدم العشوائية. حتى عند إطلاق مشاريع للحفاظ على المباني التراثية، كما حدث مع فندق “لينكولن” (2019)، تبقى هذه الجهود استثناء أمام التيار الجارف للتوسع العمراني.
حلول ممكنة.. لكن الإرادة غائبة
يرى الخبراء أن الحفاظ على تراث الدار البيضاء لا يتعارض مع التنمية الحديثة، بل يمكن إدماجه في المخططات العمرانية بطريقة مبتكرة. في هذا السياق، تطالب جمعية “كازاميموار” بضرورة فرض دراسات أثرية قبل أي قرار هدم، واعتماد آليات تحفيزية لترميم المباني القديمة، بدلا من اللجوء إلى الهدم التلقائي.
اليوم، تجد الدار البيضاء نفسها أمام خيار حاسم: هل تستمر في مسار محو ذاكرتها المعمارية لصالح ناطحات سحاب بلا روح، أم تتبنى نهجا أكثر توازنا يحترم إرثها التاريخي؟ القرار لن يؤثر فقط على المشهد الحضري، بل سيحدد أيضا مكانة المدينة في المشهد الثقافي العالمي.