لم يعد ما يشهده المغرب من موجات حر مجرد ظاهرة موسمية عابرة، بل أصبح عنوانا لمرحلة مناخية مقلقة تفرض واقعا جديدا، يتطلب استجابة وطنية شاملة وسريعة. فقد دخلت المملكة، مع حلول صيف 2025، مرحلة متقدمة من التحولات المناخية، حيث تسجل درجات حرارة غير مسبوقة، وتفاقمت معها انعكاسات بيئية واقتصادية وصحية خطيرة.
في العام الماضي فقط، سجلت وفاة 21 شخصا بمدينة بني ملال جراء موجة حر قاربت 50 درجة مئوية. وفي 2025، لا يزال شبح الكارثة ماثلا، بعدما شهدت مدن مثل بن جرير والسمارة درجات حرارة تجاوزت 46 درجة، لتصنَّف ضمن المدن الأكثر حرارة على مستوى العالم.
اختلالات تتعمق في الزراعة والماء والطاقة
منذ ست سنوات، يعيش المغرب على وقع جفاف مستمر، ازداد حدة بفعل التبخر الهائل لمياه السدود. فخلال صيف 2024، كان معدل التبخر اليومي يفوق 1,5 مليون متر مكعب، ومع صيف 2025، تؤكد المؤشرات أن المخزون المائي بات عند مستويات تنذر بالخطر. فرغم المشاريع التي أطلقت منذ 2023 لتوسيع محطات التحلية وإعادة استعمال المياه، إلا أن العجز المائي ما زال قائما، والضغط على الفرشات المائية في تصاعد.
القطاع الزراعي، الذي يشغل ملايين المغاربة، يدفع بدوره ثمنا باهظا. فالمحاصيل الحساسة مثل الطماطم والبطيخ والحوامض باتت تعاني من اضطراب في التزهير، وصغر حجم الثمار، وظهور تشققات تؤثر على جودتها التسويقية. هذه المعطيات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الزراعة المكثفة القائمة على الري التقليدي أصبحت غير قابلة للاستمرار في مناخ معادٍ.
شهد استهلاك الكهرباء ارتفاعا مقلقا تجاوز 15% مقارنة مع العام الماضي، مدفوعا بانتشار أجهزة التبريد والمضخات الزراعية. وقد بلغ الضغط على الشبكة مستويات غير مسبوقة، خاصة في وحدات الصناعات الغذائية التي تشغل التبريد الصناعي بشكل متواصل. هذا التصاعد في الطلب الطاقي يطرح تحديات كبرى أمام الانتقال الطاقي الذي لم يبلغ بعد مرحلة النجاعة.
أما على المستوى الصحي، فالوضع لا يقل خطورة. فموجات الحر تضرب دون رحمة الفئات الهشة: كبار السن، الأطفال، والعمال في الفضاءات المكشوفة. ومع ذلك، تظل البنية الصحية الوطنية غير مهيأة كفاية لمواجهة هذه الطوارئ، في غياب خطط واضحة للتعامل مع الأزمات الحرارية المتكررة.
ثمن المناخ: خسائر في التنمية وتوسع للفوارق
تؤكد المعطيات الدولية أن تكلفة التغير المناخي قد تصل إلى 19% من الناتج الداخلي العالمي بحلول 2050. لكن في المغرب، بدأت هذه الخسائر تأخذ أبعادا ملموسة: انخفاض الإنتاج الزراعي، ارتفاع الفاتورة الطاقية، هجرة من القرى نحو المدن، وتضرر البنيات التحتية بفعل الحرارة المتطرفة.
وتتجلى خطورة الوضع في التفاوت المجالي بين المدن والمناطق القروية، حيث تعاني الأخيرة هشاشة أكبر وقلة تجهيزات تجعلها عرضة مباشرة لأثر التغير المناخي. هذا التفاوت قد يتحول إلى عامل لتكريس الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، وتغذية شعور بالإقصاء.
يبدو أن المغرب لم يعد يملك ترف الانتظار. فالتعامل مع هذه التحولات المناخية لا يجب أن يظل مرهونا فقط ببرامج متفرقة، بل يتطلب إصلاحا جذريا لمنظومة تدبير الماء، وإعادة هيكلة السياسات الفلاحية، وتحفيزا للاستثمار في الطاقة المتجددة، وتحديثا عاجلا للأنظمة الصحية.
المسألة لم تعد بيئية فحسب، بل أصبحت رهانا وجوديا يرتبط بالأمن الغذائي والمائي والاجتماعي، وشرطا من شروط استقرار البلاد في المستقبل القريب.