في زحمة الحياة الرقمية الحديثة، أصبح من الطبيعي أن يرى الآباء أبناءهم يغرقون في شاشات الهواتف والأجهزة اللوحية قبل العشاء، وبعد المدرسة، وأحيانا خلال الوجبات العائلية نفسها. لكن هل هذا الاعتياد على الشاشة مجرد تطور عصري، أم أنه يشكل تهديدا صامتا لقدرات الطفل العقلية والاجتماعية؟
تغيرات فيزيائية في دماغ الطفل
الدكتور سمير شاه، طبيب نفسي ومدير طبي في مستشفى بالمملكة المتحدة، لا يكتفي بالتحذير، بل يعرض معطيات صادمة: “الدراسات أثبتت أن الاستخدام المتكرر والمفرط للشاشات لا يؤثر فقط على طريقة تواصل أجزاء الدماغ، بل يحدث أيضا تغييرات في البنية الفيزيائية للمناطق المسؤولة عن الذاكرة والتخطيط”.
بكلمات أخرى، يصف شاه لصحيفة “إندبندنت” البريطانية الأمر كمن يعيد توجيه حركة المرور خلال أشغال طرقية دائمة.. النتيجة؟ شبكات دماغية غير متوازنة.
يرجع شاه مشاكل مثل ضعف التركيز، وتراجع القدرة على حل المشاكل، وصعوبة تعدد المهام، إلى التعرض الطويل للشاشات. ويشبه الأمر بمن يمارس رياضة تقوي عضلة واحدة فقط، بينما تضعف العضلات الأخرى المهمة كالانضباط الذاتي، والصبر، والقدرة على تأجيل المتعة.
لماذا الإدمان على شاشات الهواتف مغر للأطفال؟
السر في مادة اسمها الدوبامين، وهي كيمياء المتعة في الدماغ. كل مرة يتفاعل فيها الطفل مع الشاشة، خاصة عبر الألعاب أو وسائل التواصل، تفرز هذه المادة. ومع الوقت، يصبح الطفل بحاجة دائمة لهذا “الدفعة” الكيميائية. يقول شاه: “نشبه الأمر بمن يفتح الباب مرارا على أمل ظهور زائر مثير”.
بحسب الأبحاث، الأطفال والمراهقون الذين يقضون أكثر من أربع ساعات يوميا أمام الشاشة معرضون أكثر للإصابة بالقلق والاكتئاب. التحفيز المستمر من الشاشة لا يعني إشباعا عاطفيا، بل على العكس، يخلق شعورا بالفراغ والتشتت.
قلة التفاعل الوجهي والاحتكاك البشري، تقول الدراسات، تؤدي إلى تراجع مهارات مثل التعاطف، وفهم الإشارات غير اللفظية، وحتى التحكم في نوبات الغضب والانفعال.
يشدد شاه على أن دماغ الطفل، خصوصا قبل سن الخامسة وخلال سنوات ما قبل المراهقة، يكون في أوج تطوره. وأي تدخل مفرط، مثل التعرض المستمر للشاشات، قد يحدث تأثيرات بعيدة المدى، قد لا تظهر إلا في سن متأخرة.
تكشف فحوصات الدماغ أن الأطفال الذين يقضون وقتا طويلا أمام الشاشات لديهم تغييرات في المناطق المسؤولة عن اتخاذ القرار، والتركيز، واللغة. “الأمر لا يعني تلفا دماغيا”، يوضح شاه، “لكننا أمام نمط تطوري مختلف قد يحمل تبعات غير متوقعة”.
ينصح الدكتور شاه الآباء بما يسميه “الديتوكس الرقمي”: لحظات محددة بدون شاشات، مثل قبل النوم وأثناء الوجبات، إلى جانب تشجيع اللعب في الهواء الطلق. كما يشدد على أن نوعية التفاعل الرقمي مهمة، فمكالمة مع الجدة ليست كالتنقل العشوائي بين مقاطع الفيديو.