في خطاب حازم ومفعم بالرؤية الاستراتيجية، خص الملك محمد السادس العالم القروي والمناطق الجبلية بحيز واسع من كلمته أمام البرلمان، أمس الجمعة، خلال افتتاح السنة التشريعية الأخيرة من الولاية الحالية، مؤكدا أن مستوى التنمية المحلية هو المرآة الصادقة لتقدم المغرب الصاعد والمتضامن، وأن العدالة الاجتماعية والمجالية ليست مجرد شعارات، بل توجه استراتيجي يجب أن يحكم كل السياسات العمومية.
وقال الملك إن تحقيق هذا التحول يتطلب تغييرا في العقليات وأساليب العمل، وترسيخ ثقافة النتائج والمحاسبة، مشيرا إلى ضرورة اعتماد معطيات ميدانية دقيقة وتوظيف التكنولوجيا الرقمية لتحسين الأداء التنموي. كما شدّد على أهمية إعطاء الأولوية للمناطق الأكثر هشاشة، ولا سيما الجبال والواحات، لأن “لا تنمية منسجمة بدون تضامن فعلي بين الجهات”.
ودعا العاهل المغربي إلى إعادة النظر في تنمية المناطق الجبلية التي تمثل نحو 30% من التراب الوطني، مبرزا الحاجة إلى سياسة عمومية مندمجة تراعي خصوصياتها ومؤهلاتها، وتوسيع نطاق المراكز القروية لتقريب الخدمات من المواطنين وتقليص آثار التوسع الحضري.
الحاجة إلى سياسة جديدة للجبل
محمد الديش، منسق الائتلاف الوطني لأجل الجبل، وصف الخطاب الملكي بأنه تأكيد متجدد على غياب العدالة المجالية واستمرار مظاهر التفاوت التي يعانيها سكان الجبل رغم ثروات مناطقهم. وأوضح أن “الملك يعيد طرح الموضوع بإلحاح لأنه يدرك أن هذه الفجوة المجالية تمس جوهر التنمية الوطنية”.
وشدد الديش على أن المطلوب اليوم هو إعادة النظر في السياسات الموجهة للمناطق الجبلية، عبر استراتيجيات طويلة المدى بدلا من برامج متفرقة ومناسباتية. وأضاف أن أولى الخطوات يجب أن تظهر في قانون المالية لسنة 2026، كتعبير ملموس عن إرادة الحكومة في تفعيل التوجيهات الملكية.
ولم يخف القيادي الحقوقي استياءه من غياب الانسجام بين ما يدعو إليه الملك وما يطبق على أرض الواقع، قائلا: “ما زال الجهاز التنفيذي يسير في واد آخر، بينما الجبل لا يطلب صدقات بل إنصافا حقيقيا في توزيع الثروة والاستثمار”. ودعا إلى الإسراع بإخراج قانون الجبل باعتباره “ضرورة تشريعية تؤطر السياسات العمومية وتربطها بمسؤولية قانونية واضحة”.
الخبير يونس التايب: التحول في التنمية يجب أن يكون قائما على الأثر الميداني
من جانبه، رأى الخبير في الحكامة الترابية يونس التايب أن الخطاب الملكي يشكل منعطفا في التفكير التنموي بالمغرب، إذ دعا إلى تقييم البرامج على أساس أثرها الحقيقي في حياة المواطنين، لا فقط من خلال الأرقام والمؤشرات التقنية.
وأوضح التايب أن العدالة الاجتماعية والمجالية يجب أن تتحول إلى مبدأ موجه لكل الفاعلين العموميين، لاسيما في ظل التفاوت الكبير بين المناطق. ودعا إلى تجاوز المقاربة التقنية الضيقة نحو نسق تدبيري جديد يدمج القيم المجتمعية والبعد التضامني، ويمنح المواطن دورا محوريا في صياغة السياسات المحلية.
وحدد التايب أولويات واضحة، من أبرزها تأمين الموارد المائية وتوفير مياه الشرب والسقي، وتمكين الأسر في الجبال من الولوج إلى فرص الدخل والعمل، خاصة النساء والشباب. كما دعا إلى فك العزلة عن القرى النائية عبر الطرق والمسالك، وتقوية الخدمات الاجتماعية في الصحة والتعليم والتكوين المهني.
واعتبر أن نجاح هذه الرؤية الملكية يتوقف على مدى التزام القطاعات الحكومية والجماعات الترابية بالتنسيق الفعلي والتكامل في التنفيذ، مشدداً على أهمية التواصل مع المواطنين لبناء الثقة وضمان الشفافية.
خلاصة: لحظة مفصلية في بناء مغرب الإنصاف والتنمية
يمثل الخطاب الملكي الأخير إشارة قوية إلى ضرورة الانتقال من النوايا إلى الفعل، ومن التخطيط المركزي إلى التنمية المتجذرة في التراب. فالمناطق الجبلية والقرى ليست عبئا على الدولة، بل خزانا للطاقة والثقافة والموارد الطبيعية، إذا ما أحسن تدبيرها يمكن أن تكون قاطرة لمغرب متوازن وعادل.
إنها لحظة مفصلية بين مغربين: مغرب المركز ومغرب الهامش. وبينهما، يضع الملك محمد السادس الجميع أمام مسؤولية تاريخية لإنصاف “المغرب العميق” وجعل العدالة المجالية حقيقة تُلمس على الأرض لا شعارا يتلى في الخطب.


