في بلد اعتاد أن يغير جنرالاته كما يبدل ملامحه الرسمية، عاد “الشبح” من العتمة. اللواء عبد القادر آيت وعرابي، المعروف بـ«حسان»، خرج من خلف ستار السجن العسكري، ليعود فجأة إلى رأس جهاز الأمن الداخلي الجزائري، وكأن شيئا لم يكن. عودة تشبه الفيلم الرديء الذي تعرف نهايته قبل أن يبدأ، لكنك تضطر لمشاهدته مرة بعد مرة، لأن من يدير الكاميرا لا يؤمن بالتغيير… بل فقط بإعادة تدوير التاريخ على طريقة الأجهزة المهترئة.
الإعفاء الأخير للواء عبد القادر حداد، الملقب بـ«ناصر الجن»، من قيادة DGSI، بعد أقل من سنة على تعيينه، ليس سوى فصل آخر من دراما سياسية ـ أمنية تفضح حجم التصدع داخل دواليب النظام. ليس ثمة إعلان رسمي كالعادة، بل تسريب هنا وهمسة هناك، إلى أن يعلن الخبر كتحصيل حاصل. هكذا تدار الدولة، وهكذا يقال الجنرالات، دون مساءلة أو تبرير، فقط بتوقيع خفي من فوق.
المشهد برمته يعيدنا إلى النقطة الأهم: منذ خمس سنوات، تعاقب أكثر من خمسة عشر جنرالا على مفاصل الأجهزة الاستخباراتية الثلاث الكبرى، وكأن الجزائر تبحث عن جنرال صالح بالقرعة، أو تائهة في نفق لا مخرج له.
اللواء “حسان” ليس رجلا عاديا. هو أحد رجال “الظل” في عهد الجنرال توفيق، الزعيم غير المعلن لجهاز DRS الذي حكم الجزائر من خلف الستار لأكثر من ربع قرن. “حسان” هو صاحب سجل دموي يمر عبر عين أميناس، حيث قاد عملية تحر للرهائن انتهت بمجزرة دولية لا تزال تلاحقه. محاكمة، سجن، تهم بنقل سلاح وتسريب وثائق، ثم… عفو غير معلن. اليوم يعود إلى المنصب الأمني الأرفع، في سيناريو لا يمكن تفسيره إلا بعبارة واحدة: الولاء لا يسقط بالتقادم.
يبدو أن “عشيرة توفيق” لم تقتلع،.. بل انتظرت العاصفة في زنزانة البليدة، وعادت لتقطف الثمار بعد رحيل الخصوم. قايد صالح، من وضع حدا لنفوذهم مؤقتا، ذهب وذهبت معه محاولات بناء جهاز استخبارات “جديد”، ليعود “حسان”، ومعه وجوه من زمن الرصاص،.. كأن الدولة لم تتقدم دقيقة إلى الأمام منذ العشرية السوداء.
اللافت أن “ناصر الجن”،.. سلفه، لم يعين حتى بمرسوم رسمي، بل جاء في لحظة ارتجال سياسي، حين طلب منه الرئيس تبون شخصيا،.. وبصوت مرتعش كما يقال، أن يتولى المنصب. رئيس يرتجف وهو يعين مسؤولا أمنيا؟ إنها علامة لا تخطئ على دولة تدار بالخوف والارتجال.
في جوهر هذا العبث، يبرز عاملان لا يمكن القفز عليهما:
غياب الكفاءات الجديدة،.. فالدولة لم تنتج سوى أسماء تبعث من غبار الماضي اللااستقرار المزمن،.. حيث لا مدير مخابرات يكمل عاما دون أن تلاحقه الشبهات أو تطيح به الصراعات الداخلية.